سبب للكتابة
الأحد 25 شباط 2018

أوّل رسالة وصلت في أواخر شهر شباط. فتحها فلاح دون أن ينظر إلى الأسم على الظرف، و في البداية كان محتوى الرسالة غير مفهوم كلياً و مربك. إلى أن قفز و اصطاد المغلف المجعّد من سلّة القمامة و أدرك أن الظرف مُعنون إلى جارته.

جارة فلاح طالبة جامعية اسمها آية، و كان فلاح قد وقع في حبها منذ فترة. الرسالة المعنونة لها مكتوبة من شاب أسمه ياسر، و قد تكهّن فلاح أنه يحاول أن يتواصل معها عبر المسافات الطويلة بينهما كما يتبين.

يظن فلاح أن الرسالة نوع من البياخة. كانت الرسالة نوع من الدبلجة في فلم رومانسي رخيص، حيث المحاولات تتقلّب ذهاباً و إياباً بين الحياة الهادءة و المنفصلة لنجمي هذا الفيلم. آمل أن تكوني على ما يرام، كيف هي حياتك الجديدة، الأشياء هنا لم تتغير، أنا أعمل على قصة قصيرة جديدة وأريد أن أشاركك إياها، صديقك، ياسر.

كانت نوع من الرسائل و قد كتب على كل جنب منها "أحبكِ و أشتاق لكِ" عدا في الرسالة نفسها. ياله من حب شاب، حب ساذج (نقي؟) جعل فلاح يشعر بالغثيان.

و مع هذا، فقد قرأ الرسالة أكثر من ما قد يريد أن يعترف به مع نفسه.

لبضعة أيام، جلست الرسالة على مكتب فلاح. كان يعرف ما يجدر به أن يفعل و يرجع الرسالة إلى صاحبها المعنون له. و لكنه لم يستسيغ فكرة أن يقدم نفسه لآية و يسلمها رسالة مكتوبة بقلم منافسه.

أيضاً، فلاح يكره الكُتّاب.

ولكن لسبب ما، لم يكن يستطيع أن يرمي الرسالة، فبقيت في درج المكتب و نسي عنها على وجه السرعة.

*   *   *

وصلت رسالة ثانية في شهر آذار/مارس، و قد فتحها فلاح عنوة. بمجملها، كانت مثل سابقتها؛ مستجدات عن الحياة ملونة بشعور عام عن الوحدة و الشوق (صديق متبادل رزق بطفل، و آخر توفي أباه، و على نحو بتقارب الحدثين يعطي مشاعر ذات معنى في "دورة الحياة" بطريقة ما. عند نهاية الرسالة، كان هناك تطورات شبه مهمه: واحدة من قصص ياسر القصيرة ربحت جائزة من صحيفة أدبية، و يريد أن يرسل لآية نسخة من القصة عندما يتم نشرها.

فلاح فكر بهذا لفترة من الزمن. واعتبر أن الغالبية العظمى من المجلات الأدبية (المعروفة) تكون أكثر اهتماما بما هو شائع اليوم، و بعيداً عن الموهبة و أصالة العمل الأدبي، و الصحيفة التي اختارت ياسر كانت- بسبب شهرتها و أفضالها للصالح العام في مجتمع الكُتّاب- مجرد حدث فاضح آخر لهذا الظلم.

في نهاية الامر، لم ياخذ فلاح الكثير من الاهتمام بهذه التطورات. بالاضافة، فقد شارك آية بنصف ابتسامة عندما رآها في السوبرماركت. فكان يتوقع ان يتطور هذا الى شيء اشبه بمحادثة قصيرة بحلول نهاية العام، و مع قليل من الحظ، يأمل فلاح أن يخرجوا بموعد معاً في خلال ثلاثة، أو أربعة سنوات.

لم يكن يحب كثيراً فكرة الرومانسية الميؤوس منها و صحيفة أدبية توقف النمو البطيء لتبرعم شبه-رومانسية.

وهكذا، فالرسالة الثانية انضمت للأولى في درج المكتب.

*   *   *

وصلت رسائل جديدة كل شهر. و تم قراءتها بشكل موجز ووضعها مع الآخرين في درج المكتب. وبحلول شهر آب/أغسطس، أصرار ياسر في بدأ يزعج فلاح، الذي لم يتمكن من تحقيق أي خطوات كبيرة مع آية منذ نصف-الابتسامة المُقدّر لها في السوبر ماركت.

في بعض الاحيان، كان ياسر عنده أمل؛ يتحدث عن القصص التي يكتبها و حياته الجديدة في المدينة. كان صعباً، يقول هو، أن تترك رفاهيتك لتبدأ حياة في مدينة جديدة.  وقال إنه طوّر احتراما جديدا لقرار آية بالمغادرة قبل عام، ورأى الآن عنادها كعزم وشجاعة لم يفهمها في ذلك الوقت.

قراءة سطور مثل هذه تثير غضب فلاح، لأنها تُشعر بغير عدل تام. لأن حبه لآية نقي و جميل، لكنه لم، و لا يمكن بأي شكل، و لن يشارك أبداً من شوقه الذي مزق من قلب ياسر و لطّخ الحروف والكلمات و الجُمل في مراسلاته من جانب واحد.

رسائل ياسر شعرت كهذه القصص الشهيرة في وقتنا هذا التي طال ما كان فلاح يتجنبها، لأنها تشعر لحد كبير بغير الواقعية و تتضمن إهانة فيها.

لذلك أزعجت فلاح - وانتهت في روحه - ليكتشف أن هذه القصص كانت في بعض الأحيان هي حقيقة واقعة.

*  *  *

في أواخر شهر تشرين الثاني/نوفمبر، مع قدوم فصل الشتاء، بدأت رسائل ياسر توحي بالضجر والتعب. و تخللت كلماته وجمله بثلوج خفيفة من اليأس، و كان واضحا في ياسر شعوره أن هناك سبب وراء عدم رد آية. و على الرغم من انه يتصيّد من وراء كلماته بطريقته الهادئة و المهذبة، كان فلاح يعرف أن ياسر كان مهذبا جدا أكثر من أن يسألها مباشرة.

هذه الرسائل الشتوية أعطت فلاح شعور مريح؛ فقد عكست مشاعر اليأس و القنوط. على الرغم من التعمد من ملاقاتها عند المصعد في نفس الوقت عند كل صباح، و التعمّد في مصادفة ملاقاتها عند نفس موقف الباص في الطريق الى البيت في المساء، فلاح لم يعثر على الشجاعة ليكلم آية.

في تلك الليالي الشتوية الوحيدة، كان يزعج فلاح أن يجد نفسه في بعض الأحيان يتمنى لهذا النوع من فرص المصادفة التي تفتح الأبواب للمحادثة، وأحيانا، للرومانسية.

و كان ينزعج أيضاً لأن هذه كانت في قلب القصص من يومنا هذا التي كان كثيراً ما يكرهها و بشدة.

*  *  *

في كانون الثاني/يناير، وصل مغلف سميك و كبير في البريد. في داخله كتاب، و صحيفة أدبية،  تذكر فلاح أسمها بأدنى صدى من الحنين إلى الماضي. في الكتاب كان مجموعة مختارة من القصص القصيرة، والمقالات، والقصائد، ومن بينها، واحدة كتبها ياسر.

كانت قصة ياسر حلوة مرّة، كأنه قد لوّن رومانسية بحزن، ولكن ظللها بالأمل. كان تدفق وإيقاع الكلمات يذكر بشيء مثل ذكرى طويلة متلاشية  كان فلاح قد فكّر بها مثل عشق الماضي.

كانت الرسالة ثقيلة و منعزلة بين طيّات صفحات الصحيفة. بدأت بالمجاملات و أحداث آخر التطورات المهذبة- مع سنة جديدة سعيدة و بعض المخططات المستقبلية- ولكن انهارت في ما بعد إلى آلام في الصدق و الخلط؛ الاعتذار عن تجاوزات، و في النهاية، وعد بسيط من ياسر بالتوقف عن الكتابة، حيث أنه الآن قد أرسل الكتاب الذي وعدها به.

أخذ فلاح يحدّق بالرسالة طويلاً. ثم وضع الرسالة في درج المكتب مع سابقاتها. في هذه الليلة، سكب لنفسة كأس من الويسكي، و أخذ يقرأ قصة ياسر مجدداً. كتابته النثرية كانت أنيقة، كانت الكلمات صادقة، و القصة جيدة.

أحبها فلاح، على الرغم من أنه يمكننا القول أنه كان يتمنى بأن لا يفعل ذلك.

*  *  *

في الأسبوع التالي، تلقى فلاح رسالة أخرى، كان هذا مستغرباً لأن رسائل ياسر الأخرى قد وصلت إلى هذا الإيقاع المنتظم. لم يفتحها فلاح على الفور. كان يبدو على الرسالة أنها ثقيلة مع مليئة بالكلمات التي طال انتظارها، و مشاعر عميقة قد تشكلت.

في نهاية المطاف، فتح فلاح الرسالة، و لدهشته، وجد رسالة شكر فقط، مظللة بقلب مكسور، ومتلاشئة على مسافات تبدو و كأنها أبدية.

هذه الرسالة بالذات جعلت فلاح يشعر بالمرض، لأن ياسر تحدث فيها عن آلامه، التي كانت بطبيعة الحال، في قلبها، آية.

من ما تمكن فلاح أن يربط معا من سياق الرسالة، أن آية قد توقفت عن كتابة الشعر منذ حوالي عام و نصف، ثلاثة أشهر تقريبا بعد أن كاتب مدونة الانترنت المفضلة لها قد اختفى. و كان ياسر يحب شعر آية، و عندما لم يتمكن من تحديد مكان كاتب المدونة - الذي كان على ما يبدو قد حذف جميع آثار شخصه على الانترنت، و لم يتبقى سوى الموقع الذي يحمل قصصه - قرر ياسر أن يكتب بنفسه.

أعلم أنه كان سخيفا، كما يقول، أن أضن أنني أستطيع أن أكتب مثل كاتب القصاصات في المدونة، و أعلم كم كنتي تحبين أعماله. إذا كان من غير الاحترام أن أنسخ صوته في محاولة أن أجد صوت لي، آمل أن تعلمي أنني آسف.  ولكنني آمل أن تتفهمي أيضا أنه في البحث عن وسيلة لأحتضن لهب شغفك، فقد تعثرت عبر الغاب لأشعل به نوري.

*  *  *

في ذلك المساء،  أخذ فلاح يقرأ قصة ياسر مرة أخرى. النثر كان لا يزال أنيق، كانت الكلمات لا تزال صادقة، وكانت القصة لا تزال جيدة.

و فلاح لا يزال يتمنى انه لم يحب ذلك.

في وقت لاحق، ثملاً، وحيدا، ومثبط، سجّل فلاح دخوله على موقع مدونة لم يكن قد سجّل دخوله فيها لأكثر من سنة، و أخذ يحدق في مجموعة من القصص مثل كتب قديمة في حاجة إلى نفض الغبار عنها.

كانوا، وسوف يكونوا دائما، قلبه و روحه.

قصاصاته.

عند النظر إليها مرة أخرى، أخذ يفكر فلاح بمشاعر غامضة ومشعجة من رسائل الرفض، والحب الذي ولد في اليوم الذي ألقى فيه جهاز الكمبيوتر المحمول له من نافذة.

أخذ رسائل ياسر من درج المكتب، ووضعها على مكتبه. أخذ يفكر بهذا الشخص الذي كتبها، والشخص الذي لم يستلمها، والشخص الذي بينهما.

وأنزعج فلاح أن يجد أن مصادفة التشابك هذا الذي كان يبحث عنه منذ فترة طويلة في قصصه الخاصة، يجب أن يكتشفه الآن، كنوع من العدالة في أفعاله المخجلة.

*  *  *

في شباط/فبراير، طوى فلاح رسائل ياسر، و وضعها في مغلفات، و كتب عليها العنوان الصحيح. و انتظر آية لتغادر في الصباح، ثم وضعها في صندوق بريدها وعاد إلى شقته.

من على مكتبه، أخذ ينظر فلاح خارج النافذة إلى أزهار البرقوق في الأشجار التي اصطفت الشوارع القريبة، ثم باتجاه السماء. أخذ يفكر في البدايات والنهايات، والموجات الصغيرة التي تمر بها. فكر في الحب و الشوق، والقصة الغريبة التي نسجتهما معاً في يوم من ثورة غضب في شقة كاتب وحيد.

وأزعجت فلاح أن كل شيء يشعر به مناسب، بطريقة أو بأخرى.

ولكن بطريقته الخاصة وحيداً - كما قد بدأ يكتب للمرة الأولى منذ فترة طويلة -  يأمل فلاح أن هذه القصة من هذا العمر خاصة قد نمارقها الى ما هو الأصح، و ربما الى قَدَرها للاستنتاج.

لحن...