الحكمة الجدلية
الجمعة 02 آذار 2018

أنا لست بأي شكل من الأشكال فيلسوف، على الرغم من أنني عملت مع بعض الموهوبين في هذا المجال. ولكن بعض المفاهيم الفلسفية تعلّمني بعمق عن الطريقة التي أفكر بها عن العالم. فكرة "الحقائق المتعارضة في التطرّف" هو مفهوم قوي عنَّ لي أن أقدره في العشرينيات من عمري.

شخصيتي في بعض الأحيان توصف بالحادة. عندما أمضي الكثير من الوقت في قراءة، أو مناقشة، أو التفكير في شيء ما، ففي كثير من الأحيان أنا أثمّن لماذا كانت وجهة النظر القوية هذه  صحيحة، و أتوصّل إلى استنتاجات صلبة جداً. و لكن إذا تعرضت في وقت لاحق إلى وجهة نظر معارضة قوية، كثيراً ما أجد هذا الرأي معوّض و مُقنع أيضا. لقد كان هذا مربكاً جداً لي في البداية. فكيف يمكن أن تكون وجهات النظر المتطرفة، المتناقضة على حد سواء، صحيحة؟

أحد المفكرين الكبار حول هذه المسألة هو هيغل:

التفكير المجرد للفهم هو بعيد كل البعد من أن يكون شيئا حازما وفي نهاية المطاف يثبت نفسه، بل على العكس من ذلك، فإذا كان ثابت... انقلب على عكسه، في حين أن العقلانية على هذا النحو هي العقلانية على وجه التحديد، لأنه يحتوي على كل من الأضداد كلحظات مثالية في حد ذاتها. (١)

هذا ما أعنيه في "الجدلية"، حيث توجد الحقيقة في مختلف الظواهر و الحقيقة الفعلية هي تفاعل معقد بين الفهم الأولي ونفيها. و الفكرة هي أن معظم وجهات النظر القطبية، سواء كانت عملية أو نظرية، تحتوي في حد ذاتها على تناقضات واضحة يبدو أنها تدفع واحدة إلى القطب المعاكس للأخرى. و لكن بقدر ما يقدس الكاهن لكلا الجانبين من كتابه المقدّس، ينبغي للمرء أن يسعى جاهداً للاعتراف بأن أثنين من النقيضان المتعارضان يمكن في كثير من الأحيان أن يكونا صحيحين في آنٍ واحد.

كثير من الناس مترهلين في التفكير، وباختيار مواقف "منتصف الطريق" عندما تتواجه مع اثنين من المتطرفين المتعارضة. ولكن الحل الوسط غالبا ما يكون أقل دقة من القطبين المتطرفين لجدلية. في تجربتي، هناك الكثير من الحقائق العميقة موجودة في كل من نقيض في الجدلية، و أشد موقف بشأن قضية ما سوف يشمل "كِلا الأضداد داخل نفسه".

الفهم العميق لشيء و مؤيّد عاطفي على جانب واحد من النقاش (حتى بطريقة قد تكون غير مريحة الآخرين) هو بداية عظيمة، و الطريق إلى الحكمة. ولكن مع النضج تأتي البصيرة التي يجب أن تبقى مفتوحة للأفكار و الآراء المتعارضة تماماً مع أفكارك الخاصة بك. لقد تعلّمت أنه إذا رأيت وأصبحت أقدر جانب واحد من حجة ما بعمق، فهذا يعني أنني ربما قد فاتني شيء مهم.

حسنا، كان هذا تجريداً بعض الشيء. لننتقل إلى بعض الأمثلة ...

أحد الأمور الواضحة هو أن المُنتج هو جزء من المؤسسة. نعم، من الصحيح أن فريق عمل لمنتج كبير عليه أن يجمع ردود فعل من المستخدمين كثيرة، وينظمها، و يتخذ قرارات تعتمد على هذه البيانات - هذا نهج "علمي" لصناعة المنتج. و مع ذلك، كما نعلم من شركة سوني في ١٩٨٠م، ستيف جوبز، و مؤسسات لمنتجات إبداعية أخرى، هم أيضا من الصحيح أن عظمتهم في المنتجات تطلبت قادة ليقولوا للعملاء ما يريدون، و ليس مجرد طرح و رد على بياناتهم. هذا يتطلب قفزات خلّاقة و حدس، أو نهج "فني" للمنتج.

هذه هي منهجيات متضاربة، و لكن كلا المنهجيات يجب أن توجد داخل منظمة المنتج ليكون كبيرا. فإنه من السهل بالنسبة للقادة ذوي الخبرة المطورة للمؤسسات هذه، معرفة كيف سيتم إرتكاب الأخطاء عن طريق الاعتماد فقط على واحدة من هذه وليس الأخرى.

مثال آخر هو الجدلية بين النشاط الريادي والضبط القانوني/البيروقراطي. بصفتي رائد أعمال، كان لدي تحيز قوي للتحرك بسرعة وحسم. لقد وجدت أنه محبط وخانق عندما اقتصر المستشار القانوني أو الإدارة على حريتي في التجربة. لقد فهمت أن معظم الشركات الكبرى والمؤسسات الحكومية تعمل بطرق غير فعالة بشكل كبير (مما خلق فرصا هائلة للشركة وغيرها من المشاريع). و على الرغم من أنني ما زلت ملتزما بهذه الآراء، فقد أصبحت أكثر نضجاً الآن لكي أُقدّر أن مجموعة من أصحاب المشاريع المتحمسين الذين لديهم شهية كبيرة للمخاطرة يمكن أن يكونوا شديدي التقلّب؛ و بأنه تحتاج إلى نظام إداري و ضوابط و إجراءات للحفاظ على الشركة من التفجّر. ما هو مهم أن نعرفه هنا، هو أن الشركة لا ينبغي أن تسعى لتحقيق توازن متوسط ​​بين هذين النقيضين، بل أنه يجب حصد كلاهما في نفس الوقت. يدرك المسؤولون التنفيذيون الكبار أنهم بحاجة إلى احتضان أصحاب المشاريع الطموحين مع التحيز نحو التكرار السريع و "كسر الأمور"، مع ضمان أن القيادة المتمرّسة و الشخصيات القانونية تحافظ على مسار مستقر للشركة. إنه نموذج صعب للغاية في الإتقان.

المثال الثالث هو الجدلية بين التوسّع و التعمّق. لقد كانت تجربتي أن التركيز العميق، و الهوس، على حساب الجوانب الأخرى من الحياة يُنتج عوائد هائلة. تتبع المنحنى الانتاجي مقابل الوقت الذي يستثمره الشخص في موضوع واحد هو محدّب للغاية. و مع ذلك، أدركت أيضا أهمية بناء الجسور و العلاقات العابر للتخصصات، و في نفس القدر في مساعي حيوية مثل الحياة الأسرية. المحرك في أقصى عزمه يحرق و ينضب بسرعة أكبر. لقد اكتشفت أن المحادثات خارج تخصصنا يُشعل تألق حدسي و يخلق تآزر مهم للعمل و قد كنت جزءا في هذا. إن تحيزي هو للعمل بجد و الغوص بعمق في المواضيع، و أسند بعض من أعظم أعمالي إلى فترات من التركيز الشديد. ولكن تطوير العلاقات مع خبراء خارج الموضوع الذي اخترته و زرع اهتمامات شخصية أخرى، ساعدتني على توسيع نظرتي العامة و تحديد لفرص لربما تكون قد غابت عني تماما.

هذه أمثلة قليلة لكيفية تطبيق بصيرة هيغل عند التفكير في الأعمال الناشئة، ولكن الجدل بالطبع، يطفو في كل مكان تقريبا. واحدة من الجدليات العميقة التي واجهتها بين ما سأسميه "السلوك النيتشي" و "فضيلة الإيثار".

هناك نسبة صغيرة جداً من البشر - لربما أعلى ١٪ - لها تأثير كبير على مصيرنا السياسي و تقدم البشرية. أنا مع "اللامساواة" فيما يتعلق بالموهبة. وأعتقد أن كادر صغير من الصناعيين و المفكرين و الفنانين و رجال الدولة يهيمنون على شؤون العالم إلى حد كبير بسبب مواهبهم الطبيعية و إرادتهم الداخلية للسلطة - على الرغم من أن مجرّد الحظ يلعب بالتأكيد دوراً أيضا. و سوف يفهم القادة الفعّالون كيفية التعلم من المواهب غير العادية لأفراد مجتمع النخبة والاستفادة منها. و كثيرا ما يعيش القادة العظماء حياة غير مألوفة للغاية، و يشير نيتشه إلى أن العديد من قادة النخبة يطورون "تباعد الشفقة" عن شؤون الشخص العادي. و قد يؤدي هذا التباعد إلى تحفيز النقد الذاتي الشديد و "التغلب الذاتي المستمر" الذي يعزز قدرة القائد على التأثير و تحويل العالم. (٢) و سوف يعرف القائد الفعّال متى ينسحب من الحياة العادية و يكرّس نفسه لأعمال كبرى.

ولكن في حين أنه من الصحيح أن المواهب موزعة بشكل غير متكافئ، فإن الأرستقراطية التي لا تمانع في التفكير الذاتي هي أمر خطير جداً. هل من المفاجئ أن هتلر و موسوليني عرضا أشد أشكال السلوك في نيتشيتهن - حتى أنهم استمدّوا مباشرة من نيتشه كمصدر إلهام لفظائعهم؟ و أعتقد أن القادة العظيمين حقاً هم الذين يحتضنون الجدل المتطابق للمساواة الأخلاقية بين الأشخاص، ويزرعون إحساسا عميقاً بالفضيلة الإيثارية. أنا شخصياً أعتقد أن هذه المساواة تجد تعبير قوي في المبادئ اليهودية المسيحية: التعاطف مع الخنوع, و الرحمة، والحب لجارك كما تحب نفسك. و كثيراً ما يجد الأفراد الأقوياء أنفسهم في اتجاهات مختلفة من قوى النخبوية و الفضيلة، و في الواقع هذا توتر صحي. لدى العديد من القادة الكبار شعور قوي بالاستثنائية و بوصلة أخلاقية ثابتة.

في الخلاصة، أعتقد أن الحكمة في كثير من الأحيان جدلية في طبيعتها. و غالبا ما تكون وجهات النظر المتطرفة في التضارب بينها هي صحيحة - سواء في مجال الأعمال أو على نطاق أوسع في الحياة البشرية. إنها السمة المميزة للشخص الحكيم للتخلص من المسار الانبطاحي للتسوية الوسطية، وبدلا من ذلك احتضان هذه "التناقضات" في العقلانية وصهرهم لمسار ملموس بطرق العمل؛ أن يكون صبور و مُسترح مع عدم الانسجام المعرفي. و أنا أشجع رجال الأعمال الشباب، و الحالمون، و غيرهم من ذوي الرؤى للسعي لاستكشاف كلا الجانبين من كل قضية. كانت الحكمة الجدلية جزءا لا يتجزأ من نجاحي ورفاهيتي.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١) جورج فيلهلم فريدريش هيغل، "موسوعة العلوم الفلسفية"، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام.
(٢) فريدريش فيلهيلم نيتشه، "ما وراء الخير والشر"، ترجمة جيزيلا فالور حجّار.



هاني قاسم  شكراً لك استاذ اسامة على فكرك الرائع. طالما كانت تراودني نفس الهواجس عن متناقضين كنت قد قفزت بينهما مرات و مرات و أنا أبحث عن هذه الحكمة لتقودني للخطوة التالية. و كنت لأعجز عن تفسير هذا التفلّب في ما أراه صحيحاً.